
جذل بعد طاء وهاء
بقلــــم : منـى بنت حمود بن سالم العزرية
الصف : ثاني عشر / 1
الحمدُ للهِ الذي يسَّرَ للإنسان السبيلَ وأرشده إلى مهايعِ الحقِ وأكرمهُ بحياةٍ طيبةٍ تحتَ لواءِ عبوديتهِ ، والصلاةُ والسلام على من جاءَ رحمةً للعالمينَ وهدايةً للحائرينَ وسعادةً للتائهين .
إنَّ اللهَ -عز وجل- قدْ أوجدنا على ظهرِهذه البسيطةِ لغايةٍ هيَ أجلُّ من أن تُعرضَ معرضَ ترديدها فقطْ بالألسنةِ دونَ أن يكونَ لها في القلبِ والجوارحِ صدى، فقد جاءتْ شريعةُ الله لتمحو الضيمَ الذي عشَّشتْ عليهِ الحياةُ القاتمة قبلَ أن تدركَ غايةَ وجودها كما يصورها سماحةُ الشيخ أحمد الخليلي بقوله : ( كانتِ الحياةُ بأسرها لغزاً معمّى ضاع على الإنسانِ مفتاحهُ ، فلم يعرفْ من أينَ جاءَ ولا إلى أينَ يذهب ، إنما كانت الحياةُ مظلمةً مدلهمةً غربتْ عنها شمسُ الحقِّ وضاعتْ في معالمِ الحقيقةِ ). فالحياةُ بكلّ مظاهرها التي تلبّستْ بها ، وبكلّ أعماقها التي انطوتْ عليها ، إنّما هي ابتلاءٌ وُجدَ فيه الإنسانُ ليُعْلم من اهتدى وسلك جادة الطريقِ المستقيمِ من الذي تناسىَ أنه خليفةُ الله في الأرضِ فسلكَ غيرَ ذاكَ الطريق وحادَ وانحرف "الَّذيِ خَلَقَ المَوْتَ وَالحَياةَ لِيَبْلُوَكُم أَيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلاً" (1) ، والإنسانُ ما إنَ استنشقَ هواءَ الوجودِ في هذهِ الحياةِ الصاخبةِ بضجيجِ البشرِ إلا و بدأَ رحلةَ البحثِ عنْ منهلِ السعادةِ والنعيمِ ، وهكذا يمضيِ كلُّ امرئٍ إلى ما يُتَوهمُ لهُ أنه ضالةُ الحياةِ الطيبةِ والراحةِ الأبديةِ ؛ وبذا تعددتْ سبلُ السعادةِ التي تجريِ خلفها الأفواجُ مستغيثةً بالحياةِ تبعاً لما تمليهِ النفوسُ على أصحابها ، فمنهم من يراها في دينهِ ، ومنهمْ من يراها في أهله ، وغيره يراها في مالهِ والآخرُ في عملهِ ، ولعمري إن سبيلَ السعادةِ مفروشٌ دربهُ مذْ خلقَ اللَّه السماواتِ والأرضَ .
غيرَ أنه في زمنٍ كهذا لُوِّثَ بدخانٍ يُسمىَ فساداً ، حيثُ تلاشتِ الفطرةُ خلفَ أسرابِ الغوايةِ ، تجدُ من الأفكارِ العقيمةِ عجباً ، ومن الحروبِ ضدَّ الحياةِ ما يغشىَ بهِ القلبُ مغمياً عليهِ رهباً ، فهناكَ من يبحثُ عن الزوايا المعتمةِ ويستحِثُّ خطاهُ إلى قواقعِ البؤسِ صادحاً بألحانِ الحزنِ التي غمرت الأفئدةَ حتى طربتْ لها وسربلتْ من عبراتها ما شوَّه الروحَ والجسدْ ، فوُلدتْ عنواينُ جديدةٌ مصبوغةٌ بأحجبةِ التشاؤمِ و سرعانَ ما لاقتْ ترحاباً كثيراً دندنتْ حولهُ الأفواجُ الهائمةُ في حضيضِ الغيّ وكأن لسانَ حالهم يقولُ كقولِ الشاعرِ :
تعبٌ كلها الحياةُ فما أعجبُ إلاَّ من راغبٍ في ازديادِ
إنَّ حزناً في ساعةِ الموتِ أضعافَ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ
حتى أن السعادةَ التي وُهبتْ لنا بلا مقابلْ رُفستْ تأففاً بمنهجٍ ينادي أنْ لا فرحَ يُستجلبُ في حياةٍ قاسيةٍ ، فسرنا مع تيارٍ جارفٍ رفعَ شعاراً وَهميّاً بأننا ما خلقنا في هذهِ الدنيا لنسعد ، حتى امتدَّ آذيُّ التيارِ اتساعاً فعمتْ بصائرنا عنْ إدراكِ حقيقةِ الحياةِ وكنهِ السعادةِ ، ولعمري إن السعادةَ حكايةٌ أعمقُ من أن تدركها العقولُ القاصرةُ ، ما لها ولرفعِ الستارِعن عذبِ أسرارها إلا اللبيبُ الذيِ استوطن أعماقَ فكرٍ لا يأنفُ تأملاً كلما تدفقت أنفاسهُ على كونٍ يهبُ الحبورَ عطاءً بلا منّ ولا أذى .
فالسعادةُ شعورٌ معنويُ يستكنُّ بنواجذِ القلبِ ويفيضُ على الجسدِ والروحِ معاً ليطبعهما بطابعٍ من طمأنينةٍ وَ أمنٍ، أو كما يقولُ الدكتور راتب النابلسيِ : (هو شعورٌ معنويٌ خاصٌ بالقلبِ منفصلٌ عن الماديةِ الظاهرةِ، وهو السلامُ الذي يكمن بعمقِ الإنسانِ الذي يعلمُ غايةَ وجودهِ متخلصاً من كلِّ علائقِ العقائدِ الفاسدةِ متمسكاً بالعروةِ الوثقىَ )، وبهذا ندركُ أنَّ القشورَ التي أدخلها بعضُ المتمسكينَ بها ضمنَ قائمةِ السعادةِ كالترفِ والرفاهيةِ والحريةِ الوهمية والمال والمنصبِ إنما هي أحوالٌ، والأحوالُ حائلةٌ زائلةٌ، وما كانَ حائلاً زائلاً فهوَ أقربُ للشقاءِ منهُ إلى النعيمِ .
هي الدنيا وإن سرتك يوماً فإن الحزن عاقبة الغرور
ولا شكَّ أن الحياةَ تخبِئُ في طياتِ الزمنِ حواشيَ المتاعبِ والآلامِ ، وتجرعُ كلَّ من يعيشها غصصَ المعاناةِ ، كما يقول الشاعر :
ما يكونُ العيشُ حلواً كله إنَّما العيش سهولٌ وحزونٌ
فإنه ما من أحد سلمَ من نوائبِ الدهرِ ومن معضلاتِ الحياةِ حتى الطفلُ الذيِ خرجَ لنورِ الحياةِ بريئاً لتوّهِ ، وتلكَ هيَ الطبيعةُ التي أرادها الله للإنسان "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ"(2) ، فهذهِ المشقةُ تابعةُ للإنسانِ لا محيصَ عنها، ولكنّها في الحينِ ذاتهِ لا تعنيِ الحزن والكدر وضنكَ العيش، كمثلِ رجلٍ يعيشُ هوَ وأسرتهُ في غرفةٍ معرضةٍ للإخلاء في أي حينٍ ولا يجدُ ما يسدُّ بهِ رمقهُ ورمقَ أهلهِ ويعانيِ ما يعانيِ، ولكنكَ تراهُ سعيداً قنوعاً، يستشعرُ لذة السرورِ في قلبهِ. في حينِ أن هناكَ رجلاً أوتيَ من الكنوزِ ما إن مفاتحهُ لتنوءُ بالعصبةِ أولي القوةِ، وتراهُ لا تنامُ له عينٌ قريرةٌ وكأنما جبالٌ من الهمومِ تدكُّ صدره، فما الذي يجعل السعادةَ تستوطنُ عرشَ فؤادِ الأول دونَ الثانيِ رغمَ كبدِ الحياةِ التي يعيشها ؟
"أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَياةِ الدُّنْيَا"(3) ، الوعدُ الحسنُ، الرضوانُ والجنةُ، الطاعةُ والعبوديةُ لله، تلكَ هي أسرار ذلك الإطمئنان ؛ فهي النعيمُ الدنيويُ الحقُّ حتى لو كانتِ الدنيا أشلاءً ممزعةً من ألمٍ . فأنتَ عندما ترحلُ بروحك إلى الملكوتِ في صلاةٍ خاشعةٍ تفرح، وعندما تنتحبُ بكاءً من خشيةِ الله تفرح، وحينما تبحرُ في عبابِ بحرِ آياتِ الله تفرح، وعندما تجاهدُ في ميدانِ الدعوةِ إلى الله تفرح "فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"(4).
ولا يخفىَ عليكَ أن إقرارَ السعادةِ في حياةِ المؤمن ونفيِ الحزنِ عنها لا يعنيِ بتاتاً أنّ المؤمنَ انفصلَ عنِ جنسِ البشرِفلا يضيقُ ولا يحزن ، فالرسولُ -صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ- صرّحَ بحزنهِ العميق في جملتهِ التي رقتْ لها الأفئدةُ حينما لمْ يشأ اللهُ أن يحياَ ابنهُ الوحيد إبراهيم (وإنا على فراقكَ يا إبراهيم لمحزونون)، وكذلك الحالُ حينما حلَّ ضيمُ ذلكَ العامِ القاتمِ الذي كابدَ فيهِ الحبيبُ المصطفىَ عسرَ مصيبتينِ فجّرتا في قلبهِ الأحزانَ وأسالَتا المهجَ من مآقيهِ حتىَ سُمِّيَ بعامِ الحزنِ .
فالحزنُ من مظاهرِ هذهِ الدنيا الفانية وإلاّ لما كانَ نعيماً لأصحابِ الجنةِ أن أجلى اللهُ عنهمُ الهمَّ والحزنَ، "وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ"(5) ، فقدْ خُلق الإنسانُ ضعيفًا جهولًا ، قويًا بصيرًا بربِّ السماواتِ العٌلى ، فحزنُ المؤمنِ حزنٌ مقدسٌ مرتبطٌ باليقينِ، متعلقٌ بالرجاءِ باللَه، ينضحُ من وعاءِ التفاؤلِ، جنينٌ في أحشاءِ الصبرِ، يولدُ من رحمِ القربِ من الله عز وجلَّ، وليسَ ذلك الحزنُ الذي دندنَ حولهُ دعاةُ التشاؤمِ فأصبحَ هزيعاً يُبحثُ عن صداهُ كما يُبحثُ عن السعادةِ ؛ فإننا ما وُجدنا على هذه البسيطةِ - لو أدركتِ القلوبُ المريضةُ - إلا لحياةٍ طيبةٍ ونعيمٍ إلهيٍ ما حازهُ إلا من وفَّى بعهدِ اللهِ "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طًيِّبَةً "(6) .
والأريبُ يجدُ ذلكَ محفورًا في الكتابِ المنظورِ قبلَ المسطورِ ؛ فما إنْ تلوحُ أسرابُ الطيورِ على تِلْكمُ الغيومُ وَتهجرُ أوكارهاَ لتبدأَ أنشودةَ السعادةِ التي تصدحُ بها مغردةً. إنَّما تغردُ الطيورُ من فرحٍ، وإنْ سمعتها يوماً تنوحُ فإنما ذاكَ النَّوحُ بوحٌ وما البوحُ إلاَّ حبورٌ وارتواءٌ .
وهكذا عليكَ أن تحيا أيُّها المؤمنُ ، ما إنْ ينبلجَ الفجرُ ليشقَّ نورهُ سدفةَ الليلِ ، فينطلقُ النداءُ الذي يوشوشُ على آذانِ العبادِ بأصواتِ الحياةِ (اللهُ أكبر) ، تدركُ ماذا يعني أن تحيا سعيداً مطمئناً، وكيف تنقلُ الأحياءَ من حولكَ إلى ظلالِ نعيمكَ بإحسانك، مُوشِّحاً إياهم أرديةَ فرحٍ من نورِ اللهِ ، وإذا ما رأدَ الضحىَ وانكشفتْ لأبصاركَ آياتهُ ، تغلغلتْ في عمقكِ ، فتجلَّت على القلبِ السقيمِ فطببتهُ، وعلى العقلِ العقيمِ فأنبتتهُ، وهكذا هي حقيقةُ الحبورِ، يرويها ربُّ العزةِ في مُختصرٍ انطوتْ عليهِ حكايةُ الجذلْ "طَـهَ * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْءَانَ لِتَشْقَى"(7) .
تــمَّ بحمدِ الله
سورة تبارك ، الأية2 (1)
4سورة البلد ، الأية(2)
61سورة القصص ، الأية(3)
سورة يونس ، الأية58(4)
34سورة فاطر ، الأية(5)
سورة النحل، الأية97(6)
2سورة طــه ، الأية 1 والأية(7)